هذه ذكرى شخصية مؤلمة وعميقة يرويها أحد أعضاء منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، يوثّق فيها حواراً جرى في عام 1982، بعد عام من إعدام مينا عسكري. كانت مينا شابة في العشرين من عمرها من مدينةكلوكاه في محافظة مازندران، أُعدمت رمياً بالرصاص في 29 ديسمبر 1981 بسبب دعمها لمنظمة مجاهدي خلق. الراوي كان طفلاً آنذاك، يعمل في ورشة نجارة صغيرة يملكها ”نور محمد عسكري“، والد مينا.
هذه الذكرى ليست مجرد تسجيل لحوار، بل هي جزء من حزن الأب الدائم، وقسوة النظام، ومشاهدة صامتة لطفل لم يكن يدرك أن التاريخ يطبع في ذاكرته قصص المقاومة والخسارة وثقل الحقيقة الذي لا يُمحى. تتكشف الرواية كقصة قصيرة، وقد تُرجمت على هذا النحو، مع الحفاظ على نبرتها ومشاعرها وتدفقها السردي.
حزن الأب
في اللحظة التي سمعت فيها صوت الرجل العجوز المختنق بالدموع من مدخل الورشة، تذكرتُ أن عليّ أن أصمت اليوم. السيد عسكري، الرجل الطيب الفصيح، كان يبدو أحياناً وكأنه فقد كل روحه. في تلك الأيام، كان يتلو هذا البيت بشجن:
يا طائر المينا، ماذا أفعل بحزن جمالك؟
يا نشيجي المتشابك، كيف أنتظر الغد؟
بحلول ذلك الوقت، تعلمتُ أنه في مثل هذه الأيام، عندما أدخل ورشته الخشبية، يجب ألا أقول شيئاً، حتى ولو كلمة “مرحباً”. وإن حييته، لم يكن ليرد. كأنه لم يرني أصلاً.
كان الأستاذ عسكري يملك، إلى جانب ورشة النجارة، ورشة لتجهيز الأرز. وقد قبلني، وأنا الذي كنت أعرفه، كمتدرب لأكون إلى جانبه وأساعده في الورشة. كان عمري 13 سنة، أو ربما 14، لا أتذكر بالضبط. لكن الأستاذ عسكري كان قد شاخ. أحيانًا، عندما كان في مزاج جيد، كان يروي قصص نضالاته في زمن الشاه، وكيف كان يومًا ما عضوًا في حزب توده، وكيف أنه، مع والدي الذي كان صديقه منذ تلك الأيام، اعتُقلا بعد أحداث 19 اغسطس1953 وخيانة قادة الحزب، وسُجنا وجُلدا. كان والدي يقول إن الأستاذ عسكري تلقى الكثير من الضربات حتى إنه لم يستطع المشي لأيام.
عندما كان الأستاذ عسكري يروي هذه القصص، كانت تظهر في عينيه العجوزتين بريق غريب من الحماس. لكن فجأة، كان كل شيء يتغير، ويعم الورشة صمت قاتل. صمت كان يضغط على نفسي أكثر من صوت منشار الخشب.
الآن، وهو العجوز يغني، كنت أعلم أن عليّ القيام بعملي. بدأت بنقل الأخشاب التي جلبناها أمس في آخر الوقت وكنا قد رمناها بشكل عشوائي في مؤخرة الورشة. ما زال صوته يصلني:
يا طائر المينا، ماذا أفعل بحزن جمالك؟
يا نشيجي المتشابك، كيف أنتظر الغد؟
كنت أفكر في كلام أمي التي قالت إن للأستاذ عسكري ابنة جميلة اسمها مينا، أُعدمت. كانت تقول إن الأستاذ عسكري، منذ اليوم الذي ذهب فيه للبحث عن ابنته، انحنى ظهره إلى الأبد.
في عالم طفولتي، كنت أفكر: كيف يعدمون إنسانًا؟ وخاصة فتاة قالت أمي إنها كانت كالقمر، وطيبة كالملاك… وكيف ينحني ظهر رجل؟
فجأة، ناداني: “يا بني! تعالَ لنرتاح قليلًا!”
لم أصدق أذني. نعم، كان صوت الأستاذ عسكري نفسه. كسر صمته ونظر إليّ بلطف. اقتربت وجلست بجانبه. مرر يده على رأسي وقال:
“ما أجمل أنك جئت. اليوم لم تكن يدي للعمل. كنت أبحث عن أحد أتحدث إليه. تعلم أن لديّ العديد من الأبناء والأحفاد الذين أحبهم كثيرًا، لكن لا أعرف لماذا أتحدث معك. يبدو أنني معك أكثر راحة بطريقة ما…”
كلمات العجوز التي خرجت من فمه أربكتني. عندما نظرت إلى عينيه، أفزعني عمق الفراغ فيهما. قلت في نفسي: بالتأكيد الأستاذ عسگري غير راضٍ عن عملي. لكنه لم يدعني أكمل:
“سأخبرك بسر مينا…”
تذكرت كلام أمي: الأستاذ عسكري لم يعد يستقيم ظهره.
“كان ذلك العام الماضي، في مثل هذا اليوم بالضبط.”
أشعل سيجارته التالية، ثم أطفأها بغضب.
“كان الصباح… الخامسة، ربما السادسة. دقّوا الجرس. زوجتي لم تسمع، فذهبت إلى الباب. كان هناك بضعة حراس واقفين. سقط قلبي. ماذا يريد هؤلاء الأوغاد الخاسرون بعد؟ لقد أخذتم مينا إلى السجن، فمن تريدون الآن؟”
اقتربت بكرسيّ أكثر. كانت عروق رقبته النحيلة بارزة. كنت أسمع دقات قلبه.
“تقدّم أحد الحراس. ‘هل أنت السيد عسكري؟’ سأل. قسوة وقحة في صوته جمّدتني. ‘لقد أعدمنا ابنتك. تعال معنا لاستلام الجثة.'”
نسيت العالم. نسيت أن لديّ زوجة يجب أن أخبرها. أبناء يجب أن أوقظهم. مينا… مينا لن ترَ الفجر مجدداً؟
منذ كانت صغيرة، كلما استيقظت لصلاة الفجر، كانت تقوم معي. كانت تقف أمامي، تراقبني وأنا أركع وأسجد، وتقول: ‘بابا، يوماً ما سأكون طائر فجرك.’
كان صدره يعلو ويهبط مع كل نفس. تذكرت والدي يقول: “عسكري كالصخرة. في السجن، تحت السياط والتعذيب، وقف كرجل.”
“ذهبت معهم. لا أعرف كيف، هل كانت جيباً أم شيئاً آخر. أعرف فقط أنني ذهبت. مينا، ابنتي الوحيدة! لا، لم يقتلوها. كانوا يمزحون. لم يعدموها. ربما يفرجون عنها. لم تفعل شيئاً. كانت تبيع الصحف فقط. أعرف مينا…”
غارقاً في ذلك الأمل، سمعت أحد الحراس يصرخ: “نحن في بهشهر. ألا تريد رؤية ابنتك؟”
غطّى العرق البارد جبينه. كانت زبد خفيفة تتكوّن عند فمه وهو يتابع:
“تبعتهم. ممر طويل… لا نهائي. لا أعرف إن كان مشرحة أم زنزانة أم غرفة تعذيب… كنت متأكداً أنني أحلم. فركت عينيّ، حطمت رأسي بالجدار، أي شيء لأستيقظ. دفعني أحد الحراس إلى الأمام، ثم…”
صمت. صمت مشدود بنشيج مكبوت. حدّقت إليه، يائساً: قل إنه كان حلماً. قل إنك رأيت مينا تلوّح من خلف القضبان. قل إنها طائر فجرك.
“مينا… كانت ممدة على الأرض. دم صدرها جفّ ورذاذه تناثر على وجهها…”
غطّى السيد عسكري وجهه بكلتا يديه. كتفاه المرتجفتان أفزعتاني.
“لا أتذكر ماذا فعلت بعد ذلك. هل خلعت معطفي لأغطي مينا حبيبتي، أم تشاجرت مع الحراس، أم بقيت صامتاً؟ لا أعرف. كل ما أعرفه أنني كنت لا زلت تحت صدمة تلك الرؤية، تحت أنظار أولئك الحراس الأوغاد المفترسين… عندما اقترب أحدهم يحمل علبة حلوى.”
هذه المرة، استمر صمت الرجل العجوز أطول. حدّقت إليه، مذهولاً. كان ذقنه يرتجف.
في خيالي الطفولي، كنت أتخيل حارساً طيباً، ربما أشفق على هذا الأب الحزين وأراد مواساته.
“نعم. اقترب حارس يحمل علبة حلوى وبعض النقود. هنّأني وقال إنه صهري.”
خنقت شهقات الرجل العجوز صوته، وبدأت أبكي أنا أيضاً. تدفقت الدموع عبر لحيته البيضاء، تتساقط كقطرات مطر كثيفة على نشارة الخشب على الأرض.
نهض السيد عسكري وغادر دون أن ينظر إليّ. ومرة أخرى، تكرر صدى كلمات أمي: “لم يعد يقف منتصباً بعد أن ذهب لاستلام ابنته.”
في تلك السن، لم أفهم تماماً ما كان يرويه السيد عسكري. لم أدرك عمق ألمه. حتى عندما غادرت الورشة ذلك اليوم، مذهولاً ومصدوماً، وناداني مرة أخرى، لم أكن أعلم أن هذا “السر” سيصيغ مصيري.
اقترب، يحاول كبح حزنه، وقال:
“لا أتذكر الكثير من ذلك اليوم. فقط أننا أحضرنا جثة مينا إلى البيت. غسّلناها. وفي خضم كل ذلك، رفض الشيخ حسن زاهدي- ذلك الكلب المسعور الذي ينبح في مدينتنا كلوكاه – السماح لأي كان بأداء الصلاة على جسد ابنتي الطاهر. وإن كانت ابنتي لم تكن بحاجة إلى صلاة الأنجاس. لقد رحلت.”
في ذلك اليوم، ونحن نودّع بعضنا، جعلني الرجل العجوز أعده: إذا أُقيمت محكمة يوماً، ستكون أنت محاميّ. ستحكي حقيقة مينا… كان يقول: “أنا متيقن أن يومًا ما سيعقد مثل هذا المحكمة. فالله لا يمكن أن يتغاضى عن هذا الظلم اللا مغفور الذي لحق بي وبميناي”. أما أنا، العجوز، فقد خفت على حياتي. فقد هددني الحرس في هذا المضيق بالذات، قائلين إنني إذا نطقت بكلمة، فسيلحق بي ما لحق بابنتي من اغتصاب وقتل…
كان يقول: “في أي محكمة، أدِ شهادتك بهذا السر بثقة. وتأكد أن الحقيقة تفوق ما استطعت أن أرويه لك… تأكد من ذلك.”
الآن، وقد مرت 36 سنة على كتماني لهذا السر، أنا، بصفتي مجاهداً في منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، قضيت كل هذه السنوات حاملًا سر ذلك العجوز الطيب الذي ربما لم يعد على قيد الحياة. واليوم، بنفس اليقين الذي تحدث به ذلك العجوز المكلوم، أشهد في المحكمة اللامتناهية التي تشكلت من حركة المطالبة بالعدالة في كل ركن من أركان هذه الأرض، أن مينا لم تكن فقط نواح أبيها العجوز، بل أصبحت نواحًا لا يخمد لشعب يحمل كل فرد فيه مئات الجراح مثل جراح الأستاذ عسكري، ويصرخ: “لا تدعوا الأسرار تموت”.
الاغتصاب قبل الإعدام: عقيدة القسوة
خلال الثمانينيات، ووفقاً لتقارير لاحقة أيضاً، مارست السلطات الإيرانية الاغتصاب المنهجي للسجينات السياسيات قبل إعدامهن. كان التبرير الذي قدّمه مسؤولو السجون أن العذارى يذهبن إلى الجنة، وكان هذا الفعل البشع يهدف إلى منع ذلك. في العديد من الحالات الموثقة، لم تُعلم عائلات هؤلاء الشابات بالاعتداء إلا بعد وفاتهن- عندما كان المسؤولون يسلمونهم كيساً من الحلوى أو كعكة زفاف لـ”تهنئتهم” بزواج ابنتهم المزعوم من حارس سجن. أكدت عشرات الروايات من الناجين والتقارير هذه الممارسة البشعة.