بمناسبة الذكرى السنوية للثورة الإيرانية عام ١٩٧٩م، التي أدت إلى الإطاحة بدكتاتورية الشاه، يتناول هذا المقال دور النساء الرائدات في هذه الحركة الشعبية. فقد كانت مشاركة النساء في جميع المنعطفات الحاسمة للثورة، بدءًا من النضالات السرية وصولًا إلى الاحتجاجات المليونية، تجسيدًا لإحدى أكثر الفصول تأثيرًا في تاريخ إيران. لم يقتصر دورهن على دفع أهداف الثورة إلى الأمام، بل خضن أيضًا نضالًا متواصلًا من أجل تحقيق حقوقهن الإنسانية والاجتماعية.
النساء الرائدات على طريق الثورة: تجاوز عقبات المجتمع التقليدي
منذ منتصف الستينيات، برز تياران قويان للمعارضة في المشهد السياسي الإيراني، حيث تشكلت نضالات القوى الوطنية، والليبراليين، والمثقفين الثوريين بشكل رئيسي حول هذين التيارين. كان أحد هذين التيارين هو منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، التي تميزت عن باقي الجماعات السياسية آنذاك بأيديولوجيتها التقدمية، ونهجها الواقعي، ومواقفها المبتكرة تجاه قضايا المرأة وحقوقها. فقد أكدت المنظمة على ضرورة إقامة علاقات متساوية بين الرجال والنساء، ورفضت التمييز القائم على النوع الاجتماعي بشكل قاطع، مما جعلها مصدر إلهام للمثقفين والشباب، وخصوصًا النساء.
بالنسبة للنساء، ولا سيما اللواتي تعاطفن مع منظمة مجاهدي خلق، كان الانضمام إلى صفوف الكفاح السري تحديًا هائلًا. فقد كان عليهن تجاوز المحرمات الاجتماعية، ومن بينها الاعتقاد السائد بأن السياسة والنضال مقتصران على الرجال، إلى جانب تخطي القيود العائلية التقليدية. في العديد من الأسر المحافظة، كانت مشاركة الفتيات في الأنشطة الاجتماعية والسياسية تقتصر على الذهاب إلى المدرسة ولقاء الزميلات في بيئات آمنة، وكان أي نشاط خارج هذا الإطار يُعد محظورًا، بل حتى من المحرمات، ناهيك عن الانضمام إلى حركة سرية واعتماد أسلوب حياة مخفي.
ورغم هذه القيود الصارمة، تمكنت مجموعة من النساء الشجاعات من التغلب على هذه العقبات الاجتماعية والعائلية، فانخرطن في الجماعات الثورية وبدأن حياة سرية. في أوائل السبعينيات، تعرض العديد من هؤلاء النساء الرائدات للاعتقال على يد جهاز السافاك (جهاز الأمن التابع للشاه) حيث واجهن أشد أنواع التعذيب الوحشي، واستشهد بعضهن تحت وطأة التعذيب في سجون الشاه، بينما أُعدِم البعض الآخر رميًا بالرصاص، أو سقطن خلال مواجهات مسلحة مع الشرطة السرية التابعة للنظام. لقد سطّرت هؤلاء النساء، بشجاعتهن الفريدة، فصلًا جديدًا من المقاومة والنضال في التاريخ المعاصر لإيران.
فاطمة أميني وأوائل الشهيدات: طلائع المقاومة
في الأيام التي كانت فيها ظلال السافاك القاتمة تخيم على كل مكان، كانت الظروف السياسية القاسية تحدّ من إمكانية التجنيد الواسع، خاصةً بين النساء، داخل المنظمات السرية. كانت الحركات الثورية، التي كانت لا تزال في بداياتها، تعتمد بشكل أساسي على الرجال في الصفوف الأمامية للنضال، بينما لعبت النساء غالبًا دورًا داعمًا. فقد عملن على التواصل مع العائلات ومؤيدي الحركات الثورية، وجمع التبرعات المالية واللوجستية، وتعزيز أسس المقاومة.
ومع ذلك، برزت نساء تحدّين الخطوط المرسومة من قبل المجتمع والتقاليد، متجاوزات كافة القيود ليصبحن رموزًا للشجاعة والصمود. من بين هؤلاء الرائدات كانت فاطمة أميني، وهي معلمة تبلغ من العمر ٣١ عامًا، خريجة جامعة مشهد وعضوة في منظمة مجاهدي خلق الإيرانية. بدأت فاطمة أنشطتها السياسية عام ١٩٦٣م ، ولعبت دورًا محوريًا في توثيق العلاقات داخل الحركة من خلال تواصلها الواسع مع عائلات المعتقلين وأعضاء المنظمة. لكن في نهاية المطاف، تم اعتقالها أثناء أحد لقاءاتها، وخضعت لخمسة أشهر ونصف من أشد أنواع التعذيب الوحشي، حيث أظهرت صمودًا استثنائيًا. ورغم تعرضها لتعذيب أدى إلى إصابتها بالشلل التام، لم تنطق بأي اعتراف. وفي النهاية، استشهدت فاطمة تحت وطأة التعذيب، لتصبح أول شهيدة في منظمة مجاهدي خلق، لكنها لم تكن الوحيدة.
نساء مثل مهرنوش إبراهيمي، التي كانت أول امرأة تستشهد في اشتباك مسلح مع قوات السافاك في خريف ١٩٧١م، وأشرف ربيعي (رجوي)، ونرجس عضدانلو، وبهجت تيفتكجي، وشيرين معاضد (فضيلة كلام)، وزهرا كودرزي، ومرضية أحمدي إسكويي، بالإضافة إلى الأمهات البطلات مثل زهرا نوروزي (عزيز رضائي)، ومعصومة شادماني (أم كبيري)، وعزت غروي، جميعهن مثّلن نموذجًا للمرأة التي تخطّت جميع الحواجز الاجتماعية والسياسية وانخرطت في الكفاح الثوري دون خوف أو تردد.
في حقبة نضال الشعب الإيراني ضد دكتاتورية الشاه، لم يكن الكثيرون يعلمون ما الذي كانت هؤلاء النساء البطلات يواجهنه داخل جدران الزنازين وأقبية التعذيب وساحات الإعدام. لقد كانت معركة لا تقل أهمية عن المواجهات المسلحة، معركة جعلت أرواحهن مزيجًا من الصمود، والإيمان، والأمل.
في وقت كان نظام الشاه يبدو لا يُقهر، حيث كان القمع والاضطهاد يخنقان أي صوت معارض، وحيث كان الانتصار لا يزال حلمًا بعيد المنال، كانت هؤلاء النساء يقفن شامخات، يحاربن بكل قوة من أجل حقوق شعبهن، ويسطرن صفحات جديدة في تاريخ المقاومة الإيرانية.
إنها قصة نساء شجاعات نذرن أرواحهن فداءً للحرية، وأضفين روحًا جديدة على الحركات الثورية، حتى أصبح أسماؤهن رمزًا للشجاعة والأمل في صفحات التاريخ.
دور الأمهات وعائلات السجناء السياسيين: صوت العدالة في قلب القمع
بالتزامن مع المقاومة الثورية داخل السجون والنضال المسلح في الخارج، سجلت الأمهات، والأخوات، وعائلات السجناء السياسيين صفحات ذهبية في تاريخ النضال الثوري الإيراني. هؤلاء النساء المفعمات بالحماس والإصرار، اللواتي كانت قلوبهن تنبض بعشق الحرية، حملن صوت أبنائهن الأسرى والمعتقلين إلى المجتمع، وأصبحن قوة كاشفة لجرائم نظام الشاه.
لقد تحوّلت الأمهات الصابرات، اللواتي تحملن الألم والمعاناة بصمت، إلى مشعلي فتيل الاضطرابات في “جزيرة استقرار” نظام الشاه. لم يكنّ يخشين شيئًا، فكنّ يتجمعن بشجاعة في أسواق طهران، أمام المحاكم العسكرية، سجن قصر، مقبرة بهشت زهراء، وأي مكان يمكن أن يشهد احتجاجًا. كانت هتافاتهن الجريئة توقظ ضمير المجتمع، وتحرّض الرأي العام ضد الدكتاتورية، والتعذيب، وأحكام الإعدام الجائرة.
كما قامت هؤلاء النساء المقاومات بتوزيع المنشورات، وخطابات الدفاع عن السجناء السياسيين، والوثائق الثورية، ما جعلهن جسرًا بين الحركة الثورية والجماهير. من خلال أنشطتهن في الأوساط الاجتماعية، نجحن في توعية المزيد من النساء الشجاعات، ودفعهن للانضمام إلى صفوف النضال، مما أدى إلى تشكيل شبكة واسعة من الدعم الشعبي حول الحركة الثورية.
وكان من أهم المهام التي قامت بها هذه الأمهات الشجاعات، نقل رسائل قادة منظمة مجاهدي خلق إلى الأعضاء النشطين في الخارج، وكذلك إلى الجماهير الإيرانية، ما ساعد في استمرار التواصل بين النضال الداخلي والخارجي.
لقد أظهرت الأمهات وعائلات السجناء السياسيين شجاعة لا مثيل لها، وأصبحن ركيزة أساسية للحركة الثورية، وأثبتن أن الصمود في وجه الظلم لا يعرف جنسًا ولا عمرًا. لم يكنّ فقط أصوات أبنائهن المعتقلين، بل كنّ أيضًا صرخة الحرية لشعب بأكمله. سيحفظ التاريخ أسماء هؤلاء النساء إلى الأبد، كشاهدات على العزم، والشجاعة، والعشق الخالد للحرية.
النساء في التظاهرات المليونية: الحضور البطولي في ميدان “جاله“
في عام ١٩٧٦م، وأثناء تصاعد الضغوط الدولية على الشاه، وخاصة من الرئيس الأمريكي الجديد آنذاك جيمي كارتر، اضطر النظام إلى تقليص حملات التعذيب والإعدام، ما أدى إلى ظهور تصدعات في جدار القمع. خلقت هذه التغيرات بيئة مواتية للاحتجاجات الاجتماعية، وبحلول عامي ١٩٧٧-١٩٧٨م، انطلقت الشرارة الأولى للحركة الديمقراطية ضد نظام الشاه.
المحرّك الأساسي لهذه الاحتجاجات: الأمهات الشجاعات والطلاب الثوريون
كانت الأمهات الشجاعات والطلاب الثوريون هم القوة الدافعة وراء هذه الاحتجاجات، حيث أشعلوا شرارتها الأولى منذ عام ١٩٧٦م. ومع وصول الأحداث إلى ذروتها في عام ١٩٧٨م، انطلقت أولى المسيرات الكبرى المناهضة لنظام الشاه في يوم عيد الفطر، ٦ سبتمبرفي نفس العام، في تلال “قيطريه” شمال طهران. وفي هذا اليوم التاريخي، شاركت آلاف النساء لأول مرة في هذه التظاهرات، وسارت الجماهير كالسيل الجارف عبر شوارع طهران.
في اليوم التالي اي ٧ سبتمبر، ورغم حظر التظاهر الذي فرضته الحكومة، خرجت مسيرة أكبر امتدت إلى مناطق واسعة من طهران. كانت الهتافات أكثر صلابة، حيث ترددت شعارات مثل:
- الطريق الوحيد للتحرر هو الكفاح المسلح
- الطريق الوحيد للتحرر هو طريق مجاهدي خلق
وأصبح الموت للشاه شعارًا مركزيًا، يرمز إلى ذروة الاحتجاجات. قرر الشعب أن يكون ميدان “جاله” مسرحًا للاحتجاجات الكبرى في اليوم التالي.
في صباح يوم 8 سبتمبر، وعلى الرغم من فرض الأحكام العرفية، توافد الآلاف من أبناء طهران الشجعان إلى ميدان “جاله”، تتقدمهم النساء البطلات، حتى أن بعضهن كنّ يحملن أطفالهن الرضع. فجأة، فتح جيش الشاه النار بوحشية على المتظاهرين، لتتحول الساحة إلى حمام دم، حيث سقط الآلاف بين شهيد وجريح، وبينهم مئات النساء.
كان هذا اليوم نقطة تحول حاسمة في الثورة، ولم يعد هناك طريق للعودة. على الرغم من القمع الدموي، ازدادت المقاومة صلابة وراديكالية، وبدأت الإضرابات الشاملة تشل النظام، وانضمت فئات المجتمع المختلفة، وخاصة النساء، إلى صفوف النضال بإصرار أقوى. لقد ربطت هؤلاء النساء نضالهن من أجل الحرية بنضالهن ضد كل أشكال القهر والتمييز، وكتبن بذلك دورهن الخالد في التاريخ.
وبعد أشهر قليلة، بلغت الانتفاضة ضد نظام الشاه ذروتها في المسيرات المليونية يومي تاسوعا وعاشوراء. في تلك الأيام، شكلت الصفوف الموحدة للرجال والنساء، وهم يهتفون بصوت واحد “مرگ بر شاه”، موجة هادرة اجتاحت أرجاء الوطن، وجعلت نداء الحرية خالدًا في ذاكرة إيران.
صرخة الأمهات: حملة الإفراج عن السجناء السياسيين والانتصار على الدكتاتورية
كان النضال من أجل الإفراج عن السجناء السياسيين واحدًا من أمجد الصفحات في تاريخ كفاح النساء الإيرانيات. لعبت الأمهات، والأخوات، والزوجات دورًا رائدًا في هذه المعركة، فلم يكن دورهن يقتصر على إيصال صوت المعتقلين إلى المجتمع، بل نظّمن أيضًا حملة تاريخية مؤثرة ضد دكتاتورية الشاه.
كان الإفراج عن السجناء السياسيين واحدة من المطالب الرئيسية للحركة المناهضة لنظام الشاه والتي كانت تتكرر باستمرار في المظاهرات والإضرابات خلال عامي ١٩٧٧-١٩٧٨م . لكن الأهمية الحاسمة لهذا المطلب ظهرت عندما تزايدت المخاوف من مخطط دامي قد ينفذه الشاه في أيامه الأخيرة ضد قادة الحركة الثورية داخل السجون.
واستجابت أمهات وعائلات السجناء السياسيين لهذا التهديد بتصعيد تحركاتهن الاحتجاجية عبر تنظيم مظاهرات وإضرابات واعتصامات واسعة النطاق. كنّ يتوجهن يوميًا إلى القضاء، والمحاكم العسكرية، ونقابة المحامين، ويعتصمن ويطالبن بإطلاق سراح أبنائهن، مما أثار تعاطف الرأي العام وزاد الضغط على النظام المتهاوي.
وأثمرت هذه الجهود سريعًا، حيث تم الإفراج عن ١٨٢ سجينًا سياسيًا في ١٩ أكتوبر ١٩٧٨م . وبعد أيام قليلة، في ٢٥ أكتوبر، تم إطلاق سراح أكثر من ١٠٠٠ معتقل آخر. في نفس اليوم، احتشدت عائلات المعتقلين في أبنية (كاخ) العدل بطهران، وأصدروا بيانًا رسميًا يطالبون فيه بالإفراج غير المشروط عن جميع السجناء السياسيين.
في يناير ١٩٧٩م، أسفرت التحركات المستمرة للأمهات، إلى جانب الدور النشط لنقابة المحامين، عن إطلاق سراح ٦٥ معتقلًا سياسيًا كانوا محكومين بالسجن المؤبد. وأخيرًا، في ١٣ يناير، بدأ الاعتصام التاريخي للنساء المجاهدات والمناضلات في مقر نقابة المحامين، مما أدى إلى حشد دعم واسع من مختلف الفئات الديمقراطية.
وبعد أسبوع، في ٢٠ يناير، تحقق النصر الأكبر: إطلاق سراح آخر دفعة من السجناء السياسيين، ومن بينهم مسعود رجوي، أشرف رجوي، وموسي خياباني.
أدى هذا الحدث إلى تسريع انهيار نظام الشاه، حيث باتت الثورة غير قابلة للتراجع، وكان سقوط النظام مجرد مسألة وقت. كان الحضور النسائي الكثيف في المظاهرات رمزًا ليس فقط لعزيمتهن الراسخة، بل كان أيضًا انعكاسًا لتضحياتهن الطويلة التي ظلت خفية عن الأنظار لسنوات.
المرأة في طليعة النضال من أجل الحرية
لم تكن ثورة ١٩٧٩م إلا فصلًا في التاريخ الطويل لنضال المرأة الإيرانية. كان دور النساء في الثورة المناهضة للشاه حاسمًا، ولم يقتصر تأثيره على الإطاحة بالدكتاتورية الشاه، بل ترك إرثًا خالدًا من الشجاعة والمقاومة للأجيال القادمة.
لكن صفحة البطولة النسائية لم تُطوَ مع انتصار الثورة. على العكس، كانت ١١ فبراير ١٩٧٩م بداية لمرحلة جديدة من “لم يُغلق سجل بطولات نساء إيران عند منعطف 10 فبراير لعام 1979، ولم يُسلم للتاريخ، بل كان بدايةً لانتقال إلى مرحلة أعلى، حيث قدّمت جيلًا من النساء الحرائر والبطلات في معركة عظيمة ومشرفة على مدار 46 عامًا مضت للوطن الأم.
نساء استمرين بلا توقف وبكل تضحية وثمن في الصفوف الأمامية للقتال من أجل تحرير إيران من شر الديكتاتورية الدينية السوداء، ذات الخصائص البارزة من كراهية النساء، في صراع مستمر. وهنّ يسعين لأن يُسقطن “الديكتاتور الفاسد الشيخ” مثلما أُسِط “الشاه”، ويُدفن في مزبلة تاريخ إيران، ليُؤسّسوا إيران جديدة ومزدهرة وحرة تحت شمس المساواة، بقيادة نساء حرائر ومجاهدات، حيث لا مكان فيها لأي ديكتاتورية.”
المعركة مستمرة… والنصر آتٍ