من كتاب بقلم هنغامة حاج حسن – الجزء الثاني والعشرون
في هذا الجزء من سلسلة مذكّرات السجن بقلم هنغامة حاج حسن، الممرضة في مستشفى سينا بطهران عام ١٩٨١م، والتي نُشرت في كتاب وجهاً لوجهٍ مع الوحش، تواصل الكاتبةُ وصفَ مشاهداتها لمنتجات التعذيب اللاإنساني والمروّع في «الوحدة السكنيّة» ومقاومة السجينات في سجن قزلحصار، وهو المشروع الذي أدّى إلى اختلال التوازن النفسي للسجينات.
عندما عدتُ إلى شكر كان وقتَ العشاء. قالت لي:
يا هنغامة، قالوا لنا إنّه لا يجوز أن نأكل الطعام المشترك، ولا يحقّ لأحد أن يتناول العشاء مع أخرى! قالوا فقط يمكنكم أن تقولوا تفضّلي!
قلتُ: من قال هذا الهراء؟ الحاج داوود؟ حسنًا، ما دام ارتكب هذة الزلّة فسوف نلتزم به على أحسن وجه.
الآن يمكنك أن تقولي لي “تفضّلي”.
فقالت مازحةً: تفضّلي!
شكرتها، وبدأنا معًا في تناول طبق اللبن بالخيار الذي أعطونا إيّاه ونحن نضحك على الحاج وجلّاده وتوّابه!
يا لروعة ذلك اللبن بالخيار في تلك الليلة!
قالت: هنغامة، أصبحتِ مثل أنديرا غاندي.
قلتُ: البنات يقلن الشيءَ نفسه، جميل أن يكون فينا شيء من العظماء! فضحكنا.
ثم قالت: لا ترفعي شعركِ خلف رأسكِ، اتركيه منسدلًا!
قلتُ: دعيه، هكذا أفضل.
قالت: لا، سيقولون إنك سياسية!
قلتُ: فليقولوا، نحن كذلك!
قالت بقلقٍ: لا، بعدها سيبدؤون أفعالهم ويؤذونكِ… كانت قلقة ومصرّة.
كنتُ أفهم أنّ هذه الأمور هي نفسها الذرائع التي استخدموها لتعذيب السجينات في الوحدة السكنيّة، حيث أوصلوهنّ إلى حافة الجنون.
قلتُ: يا شكر، انسَي الوحدة السكنيّة! أنتِ الآن هنا، وقد انتهى ذلك المكان، فلا تفكّري به.
كنتُ أريد أن تستعيد توازنها النفسي، لأنّ كلّ تذكّرٍ لذلك المكان كان يدمّر توازنها.
كلّ كلمةٍ أو عملٍ كنتُ أقولها أو أفعله كان يجب أن يُزيل ما زُرع في ذهنها في تلك الوحدة، ويفكّكه تمامًا.
لم يكن الأمر صعبًا كثيرًا، لأنّ شكر كانت تصغي إليّ بسهولة. لكنّ عليّ أن أفهم ما هي تلك الظاهرة الملعونة.
كانت الوحدة السكنيّة لغزًا رهيبًا ومخيفًا بالنسبة لي.
ومن خلال ما سمعته من شكر وبعض الأخريات، فهمتُ أنّه في تلك الوحدة كان كلّ شيء سببًا للتعذيب:
إنْ تكلّمنَ قلنَ: تكلّمتن! وإن سكتنَ قلنَ: لم تتكلّمن! أي أنّ الفعل أو عدمه كان يُصبح مبرّرًا للعقوبة، والتعذيب كان يتمّ أمام الأخريات!
لذلك كانت السجينات في الوحدة السكنيّة يتجنّبن النظر أو السلام أو أيّ عملٍ بسيط، وكان بعضهنّ يجلسن ساعاتٍ وأيامًا متواصلة مقابل الجدار في صمتٍ وسكونٍ تامّ.
كانت شكر تأكل قليلًا جدًّا، وإذا أكلت، كانت فورًا تدير وجهها وتتقيّأ في علبةٍ صغيرة مغلقة. لقد أصيبت بقرحةٍ في المعدة ونزفت عدّة مرات، لكنّ هذا التقيّؤ كان في الغالب عصبيًّا. كانت تقول: مهما أكلتُ أتقيّأ.
قلتُ لها: لا بأس، كلي، وإن تقيّأتِ فليس مهمًّا، لكنه أفضل من الجوع. وافقت، والعجيب أنّ التقيّؤ بدأ يقلّ يومًا بعد يوم.
صفعةٌ على وجه الطبيب العميل
كانت معصومة جوشقاني معنا في نفس العنبر. كانت ممرضة في مستشفى الألف سرير، ومن الممرضات الكبيرات في قسم الأمراض المعدية.
قبل طرد شكر من ذلك المستشفى، كانت تعمل معها، وقد رأيتها مرّةً حين ذهبتُ إلى المستشفى لأمرٍ يخصّ شكر.
كان زوج معصومة أستاذًا في الجامعة وناشطًا في المقاومة الطلابية. وبعد ٢٠ حزيران/ يونيو ١٩٨١م، لمّا عجز النظام عن اعتقال زوجها، اعتقل معصومة نفسها.
وبعد تعذيبٍ شديدٍ، لمّا لم يتمكّنوا من الوصول إلى زوجها، حكموا عليها بثلاث سنوات سجن. ورغم أنّها لم تكن تمارس نشاطًا مستقلاً مع منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، فقد كانت في السجن من أشدّ الداعمات للفتيات، ولذلك كان الجلاد الحاج داوود يكرهها بشدّة. أمّا السجينات فكنّ يحببنها كثيرًا. وعندما نُقلت إلى العنبر السابع، أصبحنا قريبتيْن جدًا. وكان ما يجمعنا إلى جانب انتمائنا للمجاهدين، شكر ثمّ مهنتنا.
وكانت معصومة تكره التوّابين والخونة كرهًا شديدًا، وقد عرفتهم تمامًا في السجن، ورسمت حدًّا واضحًا بينهم وبين الشرفاء. استدعيت إلى العيادة للعمل بسبب تخصّصها، فقبلت بعد مشورةٍ مع البنات.
وكان هناك طبيب يُدعى حسيني، كان سابقًا من حركة ”بيكار“، ثم أصبح من التوّابين، ومدّ يده إلى يد الحاج داوود، يعمل في العيادة. ولم يكن يحترم مهنته، فكيف يمكن الحديث عن الضمير المهني تحت سقف الخيانة؟
ومع ذلك، كان هناك أطباءٌ آخرون يختلفون مع المجاهدين، لكنّهم لم يبيعوا ضميرهم، وظلّوا يعالجون السجينات بإنسانيةٍ ومسؤولية، ودفع بعضهم ثمن ذلك بمواجهة الجلادين. لكنّ هذا الطبيب حسيني كان يرفض معالجة المريضات في القسم الثامن، اللواتي كان يعلم أنّهنّ من السجينات المقاومات، مما زاد من آلامهنّ، خصوصًا في الحالات الخطيرة التي كانت تُنقل إلى العيادة للعلاج. وذات مرة، غضبت معصومة غضبًا شديدًا من لا مبالاة هذا الطبيب العميل، واحتجّت عليه.
فقال لها أمام الحاج داوود الذي كان حاضرًا ساخرًا: «ما شأنكِ أنتِ؟ هل بنات العنبر الثامن بنات خالاتكِ لتغضبي عليهنّ هكذا؟» فقامت معصومة وصفعته صفعةً قويّة على وجهه أمام الحاج داوود وقالت:
«لا، يا عديم الضمير! الخونة هن بنات خالاتك أنت!» وضربته بشدّة.
وبعد هذه الحادثة، نُقلت هي أيضًا عقوبةً إلى العنبر الثامن، وهكذا أصبحنا نحن الثلاث في نفس العنبر. وكانت معصومة سعيدة جدًا بحال شكر.
يتبع…