ذكريات السجن لمهري حاجي نجاد من كتاب آخر ضحكةٍ لليلى – الجزء الثاني
في الجزء الأول من ذكريات السجن التي دوّنتها مهري حاجي نجاد في كتاب آخر ضحكةٍ لليلى، روت الكاتبة مشهد اعتقالها ونقلها إلى سجن إيفين. وفي هذا الجزء، تواصل سرد تفاصيل التحقيق الأوّل ودخولها السجن وما واجهته من تعذيبٍ وهي لا تزال فتاةً في مقتبل العمر.
لحظات التحقيق
خلال الطريق قرّرت أن أروي لهم قصة جديدة حين أصل إلى إيفين: أنني ”مهربان حاجي نجاد“، طُردت من المدرسة عام 1979، وسافرت إلى إحدى المدن ولم يسمح لي أهلي بإكمال دراستي، وقد عدتُ حديثًا إلى طهران لمتابعة أوراقي الدراسية.
كنت أرفض الاعتراف منذ الليلة السابقة خوفًا من أن يلحقوا بي الأذى، وكانت خطتي أن أُغلق بذلك ملف تعاطفي مع المنظمة في تلك السنة.
عند وصولي إلى إيفين، أخذوني مباشرة إلى مبنى عرفتُ لاحقًا أنه النيابة العامة. هناك بقيت ثلاثة أيام تحت التحقيق دون أن يوجّهوا لي سؤالًا واحدًا في البداية. صادروا كل متعلّقاتي: الحذاء، الساعة، الحقيبة… وضعوا على عينيّ عصابة جديدة، ومن دون أي استجوابٍ أدخلوني إلى غرفة التعذيب.
سمعت صوتًا أجشًّا بنبرةٍ لمپنية يقول: “هنا إيفين، ويجب أولًا أن تتعوّدي على المكان، فهمتِ؟ كذبتِ البارحة، ولا بدّ أن تُعاقَبي على كذبك. وحتى لو لم تكذبي، فكل من يدخل هنا يُعاقَب أولًا، وبعدها نُعطيه ورقةً وقلمًا ليكتب مثل ما نريده. هيا، لا تضيّعي الوقت!”
حاولت أن أبدو غافلة عن كل شيء وقلت: “لكنني لم أفعل شيئًا، لماذا ترتكبون الإثم؟ لم أكذب البارحة، كل ما سمعتُه عن أعمالٍ غير قانونية وسرقةٍ وإهانةٍ للناس. أنا فتاةٌ وحيدة، من أين لي أن أعرف من أنتم وما الذي تريدونه مني؟”
وبعد لحظات، كما قال ذلك الجلاد أولًا، أدركت أن هذا هو إيفين فعلًا…
كنت ألتقط أنفاسي حين سمعت صراخ فتى يُدعى أفشين، كان المحقق يصرخ به: “تكلّم يا ابن الـ…” والفتى يردّ: “أنا لا أزال في الخامسة عشرة، لا أعرف شيئًا ولم أفعل شيئًا!”
كان سماع صوته مؤلمًا أكثر من الكابلات التي انهالت عليّ، وكل ضربةٍ يتلقّاها كنت أشعر بها في جسدي. عطشتُ كثيرًا، لكنني لم أشأ أن أطلب ماءً من هؤلاء الجلادين لئلا يهينوني مجددًا. ربما تعمّدوا إبقائي هناك لأشهد ذلك المشهد.
كنت أقول في نفسي: ما الذي يحدث هنا حقًّا؟ هل يعلم أحد؟
قالت لي سجّانة عرفت لاحقًا أن اسمها سعادتي: “قومي صلّي، عملك سيبدأ من جديد.”حاولت النهوض، لكن كل خطوة كانت كأن سهمًا يخترق قدمي إلى رأسي. لم أكن أعرف كيف أسير وقد تضخّمت قدماي من الألم. حين سقطت، التوَت ذراعي وظهري، ولم أعرف كم ضربةً تلقيتُ على جسدي حتى صار يؤلمني كله.
تدفّقت في ذهني صور كثيرة: وجيهة، مسؤلتي، قلتُ في نفسي: لابد أنه عرف حتى الآن أنني اعتُقلت، لأنني لم أتصل به صباحًا.
و تذكّرت فرحناز التي اعتُقلت في 20 حزيران، ونُشرت صورها في جريدة “اطلاعات” أعلنوا بكلّ وقاحة أن هؤلاء الأفراد أُعدموا دون التثبّت من هويّاتهم. وطلبت نيابة الملالي من العائلات أن يتعرّفوا على أبنائهم من بين هذه الصور، وأن يراجعوا النيابة لاستلام جثثهم. قلتُ في نفسي: هل تعرّضت فرحناز للتعذيب قبل الإعدام أيضًا؟ هل كانت هي الأخرى في هذه الغرف؟
تذكّرتُ فرشته، فأنا أعلم أنها فُقِدت يوم 20 يونيو/ حزيران أيضًا، ولم نكن نعرف ما حلّ بها. فكّرتُ: هل فرشته هنا الآن؟ هل هي في هذا الممر نفسه؟ كانت الأفكار المختلفة تعبر ذهني بسرعة، حتى نسيتُ تمامًا أنني بعد لحظات يجب أن أعود إلى التحقيق والتعذيب مجددًا.
لا أعرف بالضبط كم كانت الساعة، لكن الليل قد حلّ بالتأكيد. بعد الصلاة أعادوني إلى غرفة التحقيق، جعلوني أجلس مواجهًا للجدار، ووضعوا أمامي أسئلة مكتوبة تحمل شعار النيابة. كتبتُ كلّ ما قلته منذ البداية مرة أخرى. اقترب المحقّق – الذي لم أرَ وجهه أبدًا – من فوق رأسي، وضربني بالقبضات والركلات على رأسي وجسدي، وأطلق شتائمًا لم أسمع مثلها في حياتي كلّها، ولم أكن أعرف حتى معناها. وكان يهدّدني باستمرار: «إن كذبتَ، فويلٌ لك!»
كنتُ أعلم أنهم لا يعرفون عني شيئًا سوى بطاقة الدراسة تلك؛ لذا كنتُ مطمئنًا. في ساعة متأخرة، أخذني الحارس ”سعادتي“ نفسه إلى الطابق الأول، أجلسني في غرفة مفروشة بقطعة موكيت صغيرة على الأرض، وقال: «تبيت هنا الليلة، غدًا تحقيق…»

استيقظتُ لصلاة الفجر. أظنّ أن الساعة كانت حوالي الثامنة صباحًا حين أعادوني إلى غرفة التحقيق. بدأ المحقّق الضرب بالقبضات والركلات دون كلمة، وكرّر باستمرار: «تكذب، أنت منافقه!» كنتُ أستنتج من كلامه أنهم لا يعرفون عني شيئًا، لأن جهده كله كان لإثبات أنني مجاهد، وأنا أُصرّ على أنني منذ عام 1980 لم أقم بأي عمل، وأنني اعتُقلتُ بريئًا.
مضى ذلك اليوم حتى الليل على هذا المنوال. كلّ حارس أو محقق يمرّ يهبط عليّ بقبضة أو ركلة، يسبّني بشتائم تليق بهم أنفسهم، ثم يمضي.
في اليوم الثالث، للتأكد أكثر، أعادوني إلى غرفة التعذيب، ثم قال المحقّق ويبدو أنه قبل كلامي: «تبقى مؤقتًا حتى تثبت أقوالك».
في تلك الأيام لم يكن لديهم أي معلومات عن التنظيم، كانوا يعتقلون الناس في الشارع بناءً على الشكل والمظهر فقط، ويُكدّسون في إيفين. كنتُ أعلم أنه لا نظام ولا حساب، فثبتُّ على موقفي وقلتُ: أنا أصلاً لم أكن في طهران، ولم أقم بأي نشاط، وقد اعتقلتموني بلا سبب.
أخيرًا، في الساعة العاشرة ليلاً يوم 14 أغسطس، قالوا: «قم، تعال». تظاهرتُ بالسذاجة وقلتُ: «هل يمكنكم إيصالي إلى ساحة الثورة؟ فأنا لا أعرف طهران، وفي هذا الوقت المتأخر لن أجد سيارة خارجاً من هنا». ضربني المحقّق بقبضته على رأسي وقال: «أين تريد أن نوصلك؟ من هنا طريقان فقط: إما (مقبرة) مسگرآباد، أو مؤقتًا إلى العنبر». صرختُ: «مسگرآباد أين؟ العنبرما هو؟ لم تُروني أي ورقة، قلتم لديكم بضعة أسئلة. والآن أيام هنا بلا سبب، تُضربونني فقط، ولا أعرف ماذا تريدون؟»… كلما ازداد صراخي، ازداد الضرب، ولم يلتفت أحد إلى كلامي. كان ”سعادتي “هناك، فأمسك بطرف ثوبي وسحبني وقال: «تعال هنا»، وضعني خلف عمود من الأشخاص، وأعطاني طرف الحبل الذي يمسكه الجميع أمامي، وقال: «امشِ خلف هؤلاء، ولا تُكثر الكلام».
بعد حوالي ربع ساعة، سِرنا في صفّ متّصل، نجرّ أقدامنا على الأرض، معصوبي الأعين، عبر ممرات مختلفة، حتى وصلنا إلى درج. هناك فصلُوا الرجال، وأصعدوا أنا وثلاث أخوات أخريات من الدرج، توقفنا خلف باب. ضغط الحارس جرس المبنى، لن أنسى أبدًا صوت ذلك الجرس المشؤوم. بعد فتح الباب قال: «جئنا بسجينة جديدة». هناك، امرأة حارسة بدينة – عرفتُ لاحقًا أن اسمها ”عليزاده،“ وكانت سجانة سجون عادية منذ عهد الشاه – فتّشتنا جسديًا مجددًا، وقالت: «اذهبي إلى الغرفة رقم ٤».
يتبع…




















