من كتاب كتبته هنغامة حاج حسن – الجزء الأخير
في آخر جزء من مذكرات السجن لهنغامة حاج حسن التي طُبعت في كتاب «وجهًا لوجه مع الوحش»، نقرأ عن فصل فراق شكر عنها، ثم عن حريته في النهاية.
وداع شكر
كان ليلٌ؛ جلستُ مع شكر ومعصومة نتحدّث. قالت شكر: «أنا أعلم أنّكِ ومعصومة ستُحرَّران، لكنّي سأبقى.» قلتُ: «من قال إنّك ستبقين؟» نظرت في عينيّ وقالت مؤكّدة.
فجأة دخلت ”شرّاره“ مرتديةً ادرها الأسود والمقنعَة – كانت أيضاً من بين أولئك المناضلين الذين باسوا لمدّة أسبوع ثم انقلبوا. لما وقعت عينها عليّ شحب وجهها وراحت تسرّع بنظراتها بعيدًا؛ قلت لها: «هل تذكرين؟» لم تجب واكتفت بالصمت. ثم قالت: «لتحضَر شكر محمدزاده بكل أمتعته.»
فجأة توقَّفت شكر وقالت: «لن أذهب! لا! لن أذهب!»
رغم أنّ الفراق عن شكر والبُعد عنه كانا كسمٍّ مرا بالنسبة إليّ، فقد أقنعتها أن تذهب دون إحداث شجار كي لا يأخذوها بالقوة. عندما عبرت شكر قضبان الدرَج السفلي، بقيت واقفة أنظر إليها، وأجاهد بكلّ قوتي لكي لا أذرف الدموع، لكنّها كانت تنظر إليّ وعيونها تفيض بالدمع.
يا إلهي!… بكاملِ حواسي رسمتُ صورتها وحضورها في ذهني وأحفظها عن ظهر قلب، شعرت بشؤمٍ يخبرني أنّي لن أرى شكر بعد الآن! وزرّقت إلى الله بالدعاء: «لا! يا ربّ… لا!» ومع ذلك ظللت أقاوم البكاء.

شعرت بثقَلٍ كسيلان دموي خلف جفوني، وحاولت بكلّ ما أوتيت من قوّة أن أمنع انهماره. وفي اللحظة الأخيرة التفتت شكر ونظرت إليّ، مدّت يدها بتوسّل نحوي، فمددت يديّ عبر قضبان الحديد القبيح القاسي الذي اخترق قلبي، ومدّت هي يدها. خرجت من باب الزنزانة الحديدي وصرت ما أزال ممدّة يديّ نحوهـا وكل كياني يصرخ باسم شكر.
لجأت إلى السرير العلوي في الزنزانة – المكان الوحيد الذي أملكه – وحرّرت تحت البطانية سيل الدموع الذي كبتته حتى ذلك الوقت. لثلاثة أيام، في صراع الحمى والألم، كنت أحلم بشكر: شكر عزيزتي، شكر حبيبتي، صديقتي الوحيدة التي لم أجد مثلها بعد.
كما سمعت لاحقاً من زميلاتي، بعد تلك النقلة بقيت شكر حتى عام ٦٧ – وفي خضمّ المجازر – تؤكّد إخلاصها لقضيتها بدمها؛ وكانت تنقل من زنزانة انفرادية إلى زنزانات عقابية في أوين، إلى رقم ٣١١، إلى ما يُسمّى عنبر الـ «آسايش» وما إلى ذلك… كانت تتعرّض للتنقّل المستمر.
تعرّضت شكر لأشكال متواصلة من التعذيب، وانهكها المرض الذي هدم جسدها، فبلغت من الضعف والانحناء ما جعل التعرف عليها صعباً. لكن أهلها الذين كانوا معها يحكون أنّ روحها بقيت جبلية، ثابتة لا تُقهر؛ بدا أنّ شيئاً لا يقدر على هزّها. لقد صَهَرت شخصيّتها بروح مقاومة شعبٍ، وصنعت من ذلك سلاحاً جعل جلّاديها يركعون. لم يكن هناك تعذيب بعده يقدر أن يقضي عليها.
الحرّيّة
مرّت أيّام وأكمل حكمي في السجن. نادوني. كان ذلك الملا الناصري نفسه. سأل: «هل انتهى حكمك؟ هل ترغبين بالمقابلة تمهيداً للإفراج؟» أجبته بالنفي ورجعت إلى العنبر. لم أكن أتصوّر أن يطلقوا سراحي، لكنّهم بعد أيّامٍ نادوني وأرسلوني إلى إيفين.
توقعت أنّ جولةً جديدة من الاستجواب والتعذيب بانتظاري، لكنّهم بعد يومين أفرجوا عني من السجن. خالتي ووالدي كانا قد جاءا ليأخذاني؛ كانوا قد تلقّوا منذ نحو عشرين يوماً خبراً مفاده أنّهم ينوون إطلاق سراحي، فكانا يأتون كلّ يوم إلى بوابة السجن. وبما أنّني لم أُطلق سراحَ أحدٍ من قبل لم يعد أحدٌ يزورني، لكن «خالتي» التي كانت ترافق والدي كلّ يوم ظلّ حاضرًا، وفي ذلك اليوم سلّمتْني الحراسة إليه.
لمّا ابتعدنا قليلاً عن السجن، قلت لوالدي وخالتي أن يتوقفا. أردت أن ألقِ نظرة أخيرة على سجن إيفين من بعيد. توقفت ونظرت إلى ذلك المكان الذي كان يَمُوج كروح خميني، وكوحشٍ مترسّخ في ذلك الوادي. فكّرت: كم من القلوب تخفق خلف هذه الجدران! وكم من العيون المشرعة على نوافذ الزنازين الصغيرة المصفّحة بالحديد تترقّب الشمس متى ستطلّ! صرخ قلبي في داخلي: لعنًا لك أيّها الوحش على ما ابتلعته من حبيباتنا الثمينة! لعنًا لك على ما أحرقته من آمال! لعنًا لك على ما سلبته من أعزّائنا! لعنًا!… وتذكّرت ”روزبه “الصغير وحلمه الكبير، وقلت في داخلي: «وأقسم بالله وبالحرية سنُدمّرُك! سنُدمّرك!» ثم انطلقت في طريقي.