من كتاب بقلم هنغامة حاج حسن – الجزء الحادي والعشرون
في هذا العدد من سلسلة ذكريات السجن بقلم هنغامة حاج حسن، والمنشورة في كتاب “وجهًا لوجه مع الوحش”، تصف الكاتبة لقاءها بصديقتها المقربة شكر محمدزاده التي عاشت تجربة التعذيب المروع المعروف بـ الوحدة السكنية، وتكشف عن تجربة جديدة للجلادين لتدمير الإنسان.
لقاء مع عزيزتي شكر
حلّ الليل، وكما توقعنا، تم تنفيذ الأمر. استدعوا فريقنا المكون من عشرة أشخاص وأخرجونا وجعلونا نصطف خلف باب العنبر. هذه المرة، قالت حارسة جديدة: “هنغامة من هي؟” قلت: “أنا!” لكنها لم تقل شيئًا، كأنها فقط أرادت التأكد من وجودي أو من أكون. ثم قالت: “بسبب عدم الالتزام بقواعد العنبر، ستنقلون إلى العنبر 8.” من شدة الفرح، كدت أصرخ: “يا إلهي، سأرى شكر!” لا أعرف كيف لم أصرخ فرحًا.
تحركنا نحو العنبر 8، وكنت أتمنى أن أركض، لكننا كنا نسير في صف. فتح باب العنبرودخلنا، وفجأة انفجر العنبر بالفرح! يا إلهي… معظم الفتيات من العنبر 7 هنا! كانت حذائي في يدي، وتدلى حجابي وتشابك مع قدميّ، وكانت الفتيات من كل جانب يعانقننا ويقبلننا، لكن عيني كانت تبحث عن شكر. كان ازدحام الفتيات يمنعني من التقدم، وبقينا عالقين هناك. فجأة، في أبعد نقطة من دائرة الازدحام، على الجانب الأيسر أمام الزنزانة 3، رأيت شكر واقفة على أطراف أصابعها، تلوح بيدها لأراها، تصرخ باسمي لكن صوتها لم يكن مسموعًا بسبب ضجيج الفتيات، وكانت تبكي. صرخت دون وعي: “شكر!” وألقيت بكل ما في يدي وحاولت شق طريقي نحوها وسط الفتيات.
لم يعد حجابي يعيقني. كانت شكر أيضًا تحاول شق طريقها نحو دائرة الازدحام باتجاهي. وفي لحظة، التقينا… يا إلهي! تلك اللحظة التي تمنيتها لثلاث سنوات! وتعانقنا.
كانت تضع رأسها على كتفي، تكرر اسمي، تصرخ بصوت عالٍ وتبكي بشدة. كانت تمرر يدها على رأسي ووجهي، وهي لا تزال تبكي وتغرق وجهها أكثر في كتفي ورقبتي، تقول: “هنغامة! هنغامة! أنتِ صديقتي الوحيدة! أنتِ صديقتي الوحيدة!” وفجأة استدارت نحو الفتيات وصاحت: “هذه صديقتي الوحيدة! هذه صديقتي الوحيدة!”
فوجئت، وأدركت محيطي للتو! كانت الفتيات قد شكلن دائرة حولنا ويبكين بصمت. لهذا السبب سمعت صوت شكر بوضوح.
كانت شكر لا تزال متشبثة بي وتبكي. وضعت يدي حول كتفها، وكانت هي تمسك بذراعي بكلتا يديها بقوة. أخذتها نحو الزنزانة التي كانت تقف عندها، والتي كانت أقرب جدار إلينا. فتحت الفتيات الطريق وتفرقن بهدوء، ولم يقترب أحد منا. كانت يدها في يدي وجلسنا. سألتها: “هل أنتِ بخير؟” كنت أنظر إليها؛ بدت مكتئبة ومرهقة. أصبحت نحيفة جدًا. كانت قد ربطت شعرها على شكل ذيل حصان، نفس الشعر الذي كنت أرتب له وأفسده لأغيظها. كان لا يزال مرتبًا ونظيفًا.
مددت يدي وفوضت شعرها وسألت مرة أخرى: “هل أنتِ بخير؟” نظرت إليّ بعيون دامعة، وكأنها لا تزال لا تصدق وجودي، مبتسمة وهي تهز رأسها. مرت إحدى الفتيات أمامنا، نظرت إلينا، ابتسمت بحنان ومرت. تبعتها شكر بنظرها وقالت بهدوء: “هنغامة! لا تثقي بهؤلاء! لا تثقي بأحد!” ثم، بنبرة مكسورة ومرهقة، كأنها تتذكر شيئًا، أضافت لتؤكد كلامها: “كانوا يريدون إحضار أمي إلى هنا؛ تخيلي، أمي المسكينة، هنا… يا إلهي!” وانهمرت دموعها.
بينما كنت أداعب وجهها، قلت: “شكر، ماذا حدث؟ ماذا فعلوا بكِ؟ من أراد إحضار أمك إلى هنا؟” قالت: “هؤلاء!” أدركت أن حالتها ليست طبيعية، وأنها تعاني من خوف وحزن وقلق شديدين. غيرت الموضوع وبدأت أتحدث عن أخبار الأصدقاء القدامى والعائلة، وذكرياتنا المضحكة، ساندويتشات ليالي الامتحانات، الشاي الذي كنا نصنعه خلسة في السكن الجامعي، السيدة جيلك والسيدة خسروي والمدربين الذين كنا نضايقهم! تذكرت تسلق شجرة التوت عندما علقت وهربوا هم، بينما لم أحصل على أي توت من الذي جمعته لها ولـ ”سوسن“. كنا نضحك حتى القهقهة. كانت شكر تجلس أمامي وتضحك فقط. كان سلوك بقية الفتيات في العنبر مثيرًا للاهتمام، لم يقتربن منا.
تجربة جديدة للجلادين لتدمير الإنسان
نهضت لجمع أغراضي وقلت: “سأعود الآن لنتناول العشاء معًا، أحضري كل ما لديكِ!” عندما نهضت وذهبت، نادتني ”جيلا“ بهدوء من زاوية، لم أكن أعرفها من قبل، ولم نكن معًا، لكنها كانت مع شكر في نفس العنبر. اقتربت منها وكانت تبكي. قالت: “هل تعلمين ماذا حدث؟ لم نكن نعتقد أبدًا أن شكر ستتحسن وتضحك يومًا ما، أو تحيي، أو تتحدث مجددًا. لقد عادت إلى الحياة اليوم. الممرضة الطيبة في عنبرنا عادت إلى الحياة اليوم. مثل السابق، بعد الوحدة السكنية، كانت فقط تبكي. كانت تجلس ساعات تواجه الحائط ولا تتحدث مع أحد. هؤلاء التائبات القذرات كن يحيطن بها، ولم نتمكن من الاقتراب منها. كان ذلك أيضًا من أجلها، كانت تخاف وترتعب عندما نتحدث معها؛ لم تتحدث مع التائبات أيضًا. كانت تخاف من الجميع. لكنهم لم يتركوها، وكانوا ينتظرون لحظة انهيارها الكامل، ونحن رأيناهم يدفعونها للانهيار.”
النّسور! نفس النّسور التي أعرفها، كانوا ينتظرون جثة شكر!
لم أصدق، شكر التي أعرفها أصبحت مثل بقية فتيات الوحدة السكنية، لكنها كانت الحقيقة، فقد فقدت توازنها النفسي. ولكن لحسن الحظ، لم يتمكنوا من تحويلها إلى جثة، وشكر، رغم كل التعذيب الذي عانته، لم تنسَ مسعود (رجوي) و منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، وبفضلهم بقيت على قيد الحياة.
فيما بعد، أردت أن أتحقق من علاقتها بالخائنات والتائبات اللواتي كن يحيطن بها، وإلى أي مدى، مع حالتها النفسية المضطربة، تقدمت معهن. سألتها: “ماذا كنتِ تقولين لهؤلاء اللواتي كن حولك؟ هذا مهم بالنسبة لي.” استدارت ونظرت إليّ بدهشة وبنبرة متألمة وشاكية قالت: “هنغامة! هل تعتقدين أنني أصبحت خائنة؟!” سكتت قليلاً، ثم، كأنها ملزمة بالإجابة، أكملت: ” “كنّ يحاولن جعلي تائبة، صحيح أن حالتي لم تكن جيدة، لكنني كنت أفهم من هن وماذا يردن مني بهذا الحب المفاجئ. لم أتحدث معهن. لم أخن أبدًا ولن أخون! ألا تصدقين؟”
قلت: “نعم، أصدق!” عندما اطمأنت، أدارت وجهها وواصلت حديثها.
يتبع…