من كتاب بقلم هنغامة حاج حسن – الجزء العشرون
وجهاً لوجهٍ مع الوحش (20) : في هذا الجزء من سلسلة مذكّرات السجن بقلم هنغامة حاج حسن، الممرّضة في مستشفى سينا بطهران عام 1981، التي نُشرت في كتاب وجهاً لوجهٍ مع الوحش، نتابع استمرار مشاهداتها وتجاربها في العنبر العام حول آثار ومنتجات التعذيب النفسي في “الوحدة السكنية”.
العودة إلى العنبر العام
بعد حوالي شهرين قضيناه في الحجر الصحي، وفي أواخر صيف عام 1984، أُعيد إدخالي أخيراً مع مجموعة مؤلفة من عشر نساء إلى العنبر السابع. لا أذكر بالضبط في أي وقت من اليوم كان ذلك. كنتُ متشوّقة جداً للدخول إلى العنبرورؤية زميلاتي السجينات.
دخلنا العنبر فاندفعت الفتيات نحونا. لكن عددهن كان أقل من قبل. احتضنّنا بحرارة وقلن إن كثيرات من الرفيقات نُقلن عقاباً إلى العنبر الثامن، وبعضهن إلى أجنحة أخرى.
جاءت زهراء وهي تبكي وهي تعانقني. قلت لها: “لماذا تبكين؟” قالت: “ماذا جرى لك؟” نظرتُ إلى المرآة، فرأيت أن وجهي أصبح شاحباً جداً لأنني لم أرَ الشمس منذ تسعة أشهر، كما أنني نحفت كثيراً، وتحوّل خصلة من شعري في المقدّمة إلى الأبيض من غير أن أدري متى حدث ذلك. كانت الفتيات يقلن إنني أصبحتُ أشبه بإنديرا غاندي!
على أي حال، تبادلنا الأحضان والمزاح والضحك. جاءت إحداهن من ساري وقالت: “الغشتابو وجماعته كانوا يأتون دائماً ويقولون: قريباً سترون رفيقاتكم في المقابلات التلفزيونية، وكانوا يشاعون أنكنّ قد انهرتنّ، لكننا كنا نعلم أنكنّ لن تخنّ ولن تنهزنّ”.
التوّابات والجاسوسات لم يعدن يتبجحن كما من قبل، وصارت مواقفهنّ ضعيفة، بسبب الانقسامات التي حدثت في إدارة السجن نتيجة لما كان يقوله أمثال الملا أنصاري، فصار كل شيء ضدّهم، ولم يعد أحد يدافع عنهم، حتى المسؤولون الكبار في النظام ألقوا بكل اللوم على هؤلاء ليُنقذوا أنفسهم.
وكانت التوّابات يعشن خوفاً أكبر من السجينات أنفسهن، لأنهنّ كنّ يعرفن كم من الدماء أُريق بسبب خيانتهنّ. هذا الخوف كان يطارد حتى الجلادين أنفسهم؛ فحاج داوود ولاجوردي، الجلادان الشهيران، كانا يعيشان داخل السجن ولا يخرجان منه. حاج داوود جلب زوجته وأطفاله ليسكنوا معه في السجن. حتى المحققون لم يكونوا يجرؤون على الظهور بلا أقنعة أمام المجاهدات المحكومات بالإعدام. فإذا كان هؤلاء يعيشون في هذا الرعب، فكيف كان حال التوّابات؟!

في العنبر السابع وقعت عيناي فجأة على “أمّ معصومة”. لم أكن مخطئة، كانت هي معصومة إیلخاني نفسها. كانت أنحف بكثير وملامحها متعبة. تقدّمتُ نحوها واحتضنتها، ومددتُ يدي إلى شعرها كما كنت أفعل دائماً، لكنني لم أجد إلا ضفيرة رقيقة قصيرة. قلت: “أين شعركِ؟” نظرت إليّ بحنان وقالت: “اتركي الأمر، ما نفع الشعر عندما فقدنا أفضل من فينا؟” لكنها بدت حزينة جداً.
لم تتح لنا فرصة الحديث أكثر، حلّ الليل، وكنا ما زلنا نتحدث مع الفتيات بينما الغشتابو يراقبنا باستمرار.
كنت جالسة أتحدث مع ”جميلة“ حين جاءت “طاووس”، تلك الحقيرة التي كانت من المشاركات في إرسال الفتيات إلى “القفص” و”التابوت” و”الوحدة السكنية”، جلست بوقاحة بجانبنا وقالت: “مرحباً هنغامة، كيف حالك؟” عرفت فوراً أن الغشتابو أرسلها للتجسس. قلت لها: “إرحلي! من قال لك تتحدثين معي، يا قذرة؟ اخرجي من وجهي!” نهضت كالفأر وهربت. ”جميلة“ قالت بخوف: “هنغامة، لماذا قلتِ هذا؟ غداً سينقلونكِ إلى العنبر الثامن!” قلت: “ليتني أذهب، لان ”شكر“صديقتي هناك.” لم أعد أحسب شيئاً ولا أهتم. ماذا يمكن أن يفعلوا أكثر مما فعلوا بنا؟
في اليوم التالي، ذهبت إلى ساحة التهوية وجلست أتحدث مع أمّ معصومة. وبينما كانت تُريني الصور التي وصلتها، عرضت عليّ صورة ابنها الصغير وقد كبر قليلاً، وقالت: “هذه قبل موته بأيام…” ظننت أنني سمعت خطأً، قلت: “قبل ماذا؟” قالت بهدوء: “لا تقلقي، لقد أُعدم الكثير من خيرة أبناء الشعب، كبري، فاطمة، أفسانه، ناهيد… وابني أيضاً واحد منهم، فدمه ليس أزرق، لقد قتله خميني أيضاً.”
وحكت أن ابنها سقط من شرفة البيت أثناء اللعب ومات. ثم بدّلت الحديث كي لا أحزن أكثر، وأرَتني صورة أخرى. كانت متسامية وصبورة جداً.
اقتربت فتاة لم أرها من قبل، طويلة القامة، سمراء، جلست قربنا على درجات الساحة وسألتني: “أنتِ هنغامة؟” قلت: “نعم.” قالت: “كنتِ ممرّضة؟” قلت: “نعم، كيف تعرفينني؟” قالت: “عرفتك من كلامك وحركاتك، ”شكر“ كانت تحدثني عنك كثيراً، أنتِ تماماً كما وصفتك.” قلت: “من أنتِ؟” قالت: “أنا مينا.”
فرحت وقلت: “كنتِ مع شكر؟ متى؟ أين؟” قالت بهدوء: “دعي الأمر الآن.” ألححتُ عليها، فقالت: “انظري، وضعي ليس جيداً، يراقبونني بشدة، ومن أجلك لا تتحدثي معي كثيراً.” قلت: “لا بأس، فقط أخبريني عن شكر.”
تدخّلت أمّ معصومة بغضب وقالت: “أما زلتِ لا تفهمين؟ لا تتحدثي! استمعي فقط!” ووبّختني: “ما زلتِ متهوّرة كما كنتِ!” فاضطررت للصمت. كانت مينا الوحيدة من فتيات “الوحدة السكنية” التي رأيتها متّزنة بعض الشيء وغير مريضة نفسياً، لكنها كانت صامتة وحذرة.
آخر مرة رأيتُ فيها أمّ معصومة كانت في هذا العنبر. ثم لم أرها بعد ذلك حتى سمعت لاحقاً أنها فقدت عقلها في السجن. في آخر زيارة لها أبلغوها خبر وفاة ابنها الأكبر. يا له من قدر مأساوي! فقد كان ابنها في رحلة جبلية مع خاله حين سقط ومات. كلا ولديها ماتا الواحد بعد الآخر. بعد سماعها الخبر الثاني صمتت تماماً، ولم تتحدث بعدها أبداً، وبقيت في السجن سنتين أُخريين تعاني اكتئاباً حاداً واضطراباً عقلياً، ثم أطلقوا سراحها فقط بعدما تأكدوا أنها لن تعود إلى حياتها الطبيعية أبداً.
لم تُعرض أمّ معصومة على أي محكمة، ولم يصدر ضدها أي حكم، وظلّت طوال حبسها بلا تهمة، لأنهم لم يستطيعوا إيجاد جريمة لها حتى وفق قانون النظام نفسه، ولذلك لم تُحال إلى القضاء، وبقيت أسيرة حتى جُنّت، ثم أطلقوا سراحها.
امرأةٌ لم تُخضعها سجون الشاه رغم كل التعذيب، أمّا في سجون خميني فقد احتُجزت أربع سنوات بلا جرم، ولما عجزوا عن تبرير اعتقالها جعلوها مجنونة.
إن سجون خميني ليست كسجون البشر، لعلها لا تُقارن إلا بمعسكرات الموت النازية. لكن في تلك المعسكرات كانوا يقتلون الجسد فقط، أما في سجون خميني فإن من لا يُقتل تحت التعذيب، ولا يُدمَّر في “القفص” و”التابوت” و”الوحدة السكنية” وغيرها من أساليب لا مثيل لها في العالم، ومن ينجُ من كل ذلك دون أن يُصاب بالجنون، يُعدم في النهاية في مجزرة عام 1988 بعد سنوات من التعذيب على أيدي جلاّدي النظام.
إن سجون هذا النظام لا يستطيع فهمها إلا من عاشها. لا كلمات ولا أوصاف قادرة على نقل حقيقتها، إذ لا توجد في أي معجم كلمات تصف ما جرى هناك.
يتبع…