الضحكة الأخيرة لليلى…

الضحكة الأخيرة لليلى... مذكرات سجن مهري حاجي نجاد من كتاب "الضحكة الأخيرة لليلى" - الجزء الرابع

مذكرات سجن مهري حاجي نجاد من كتاب “الضحكة الأخيرة لليلى” – الجزء الرابع

في الأعداد الثلاثة الماضية من مذكرات سجن مهري حاجي نجاد، التي دُوّنت في كتاب “الضحكة الأخيرة ليلى”، وصفت الكاتبة، التي كانت طالبة في سن المراهقة آنذاك، كيفية اعتقالها واستجوابها في سجن إيفين، ثم روت ذكريات عن رفيقاتها الصامدات. في هذا العدد، تروي ذكرياتها عن رفيقات أخريات، بمن فيهن ليلى أرفعي، إحدى رفيقاتها المقاومات، وعن إلهه محبت وسودابة بقائي:

في إحدى ليالي يناير 1982، كنت في الغرفة رقم 1 في العنبر 240 العلوي، وبعد وقت إطفاء الأنوار، فتح السجان باب الغرفة وأرسل سجينة جديدة إلى غرفتنا. نظراً لأن الغرف كانت مكتظة بالسجينات، وخاصةً لم يكن هناك مكان للراحة أثناء النوم، كنا ننام في الغالب بالتناوب. في تلك الليلة، كنت أنا وفائزة ومهشيد مستيقظات وجالسات أمام الباب، لدرجة أنه عندما فتح السجان الباب ودفع السجينة الجديدة إلى الداخل، سقطت علينا. في ظلام الليل سألنا فقط عن اسمها، لكن لم نستطع التحدث أكثر من ذلك لأن الفتيات كن نائمات.

وكانت السجينة الجديدة ليلى أرفعي (شيدا)[1] بعيون سوداء وحاجبين موصولين ووجه ضاحك دائماً.

عائلة ليلى أرفعي السجينة من أهالي آذربايجان ومقيمة في طهران. عند اعتقالها، اشتبكت ليلى مع زميلتها مع قوات الحرس، ويُقال إن زميلها استُشهد.

قبل مجيء ليلى إلى العنبر، تعرضت للتعذيب والاستجواب لمدة 15 يوماً كاملة، وفي الواقع تم إغلاق ملفها وإبلاغها بحكم الإعدام، وكانت تنتظر أن يتم استدعاؤها في أي يوم لتنفيذ الحكم.

وكانت ليلى خفيفة الروح ومتحررة ولا تخشى الموت. أما أنا، التي كنت لا أزال أستخدم اسماً مستعاراً، وشاهدة على ارتقاء رفيقاتي واحدة تلو الأخرى بجانبي كل يوم، فقد كنت أشعر بأشد درجات الألم. لذلك، كل يوم كان يمر دون أن يتم استدعاء ليلى، كنت أشكر الله من أعماق قلبي وأصلي صلاة الشكر، وأقول لنفسي: ماذا تدري؟ ربما ينسى الجلادون بسبب انشغالهم الشديد ولا يأخذونها. لقد تغيرت ليلى كثيراً وأصبحت مجاهدة ناضجة بعد أشهر قليلة من 20 يونيو/ حزيران 1981، حيث كانت تصارع تناقضات النضال الجادة. كلما سنحت الفرصة، كانت ليلى تروي لي عن تشرّدها وكيف كانت تنام تحت الجسور المختلفة ليلاً، أو كيف نجت من عدة نقاط تفتيش.

كلما مر الوقت، كنت أُعطي نفسي المزيد من الأمل بأن ما قيل لها بأنها محكومة بالإعدام ليس جدياً حقاً، وكنت أسألها: كيف أنتِ متأكدة من إغلاق ملفك؟ وعندما كانت تخبرني عن محتوى الملف وما مر عليها في تلك الأيام الخمسة عشر، كان قلبي يتمزق مرة أخرى، وكنت أرى أنني لا أستطيع أن أتعلق بأي أمل. في بعض الأحيان كنت أقول لها: أنتِ تنتظرين أن يتم الكشف عن ملفي أيضاً لنسافر معاً.

وكانت تصوم كل يوم، وفي أحد الأيام قلت لها: ليلى، لماذا تصومين كثيراً؟ قالت: ليس لدي وقت، سأرحل في هذه الأيام. لأنني لم أتمكن من الصيام في أيام كثيرة هذا العام عندما كنا مشردات.

كنت أنا وليلى ومهشيد وزهرة فريقاً ثابتاً لممارسة الرياضة الصباحية، واعتدنا عليها كثيراً. كانت ليلى تستيقظ مبكراً ونشيطة ونظيفة للغاية، وكانت تُبهج المرء في كل ما تفعله.

أبرز ما يميزها هو إرادتها القوية. كل ما أرادت أن تفعله، كانت تفعله بالتأكيد. كنت أفهم من شخصيتها القوية مدى التناقضات التي حلتها خلال الأشهر الستة التي تلت 20 يونيو/ حزيران.

غالباً ما كانت توصيني بالكثير، وعن نفسها كانت تقول: أعتقد أنني عشت بالقدر الذي كان ينبغي لي أن أعيشه. ثم تتذكر ليلى أنشطتها الجريئة بعد 20 يونيو/ حزيران وتقول: كان لدي ستة أشهر بعد 20 يونيو / حزيران، وأنا سعيدة لأنني تمكنت من القيام بهذه الأشياء. كنت أحسد ليلى على كل هذه الجرأة، وأقول: ليتني كنت خارج السجن الآن ويمكن أن أكون مجاهدة مثلها، جريئة ومصممة ومجتهدة.

في معظم الأيام كنا نجلس معاً بعد الظهر ونروي لبعضنا البعض ذكرياتنا الجميلة ونضحك. أطلقنا على هذا البرنامج الذي كنا ننفذه بشكل ثابت كل يوم اسم برنامج “اقرأ واضحك”. في بعض الأحيان كنا نروي لبعضنا البعض أحداث السجن بأسلوب ساخر، باختصار، أصبحنا مجموعة مليئة بالحماس والنشاط! في 6 مايو / أيار 1982، كنا لا نزال جالسات على مائدة الغداء وكنا قد بدأنا بالفعل برنامج “اقرأ واضحك” من على المائدة. في ذلك اليوم، ضحكنا كثيراً على دعابة ”مهشيد“ لدرجة أن وجه ليلى احمرّ وعيناها امتلأتا بدموع الضحك. كنا نلتوي في منتصف الغرفة من كثرة الضحك ولم نتمكن من الوقوف. فجأة، ظهرت إحدى حارسات تُدعى ”حسيني“ أمام باب الغرفة وأشارت بيدها إلى ليلى قائلة: ليلى أرفعي، قومي تعالي! تجمدت الضحكة على شفاهنا. ليلى؟ إلى أين ستذهب؟ عانقتها وقبّلت عينيها المليئتين بالدموع من الضحك. لم أستطع النطق بكلمة، ولم أكن أعرف ماذا أقول على الإطلاق. في حالة من عدم التصديق، كنت أرى أن الجلادة تريد أن تأخذ ليلى من جوارنا وتذبحها. قالت ليلى لحسيني: سآتي حالاً. ثم سارعت، وتوضأت وصلّت وارتدت العباءة وغادرت. ذهبت أنا وزهرة ومهشيد معها حتى خلف القضبان وعدنا إلى الغرفة في صمت مطبق. لم يكن أحد في الغرفة سوانا يعرف أن ملف ليلى ثقيل وأنها لن تعود.

بعد نصف ساعة، ظهرت حسيني بوجهها المشؤوم الذي يشبه بومة عند الباب وقالت: أعطوني أغراض ليلى، وتأكدت حينها أن حمامتي الجميلة الخفيفة الروح سترحل في ذلك اليوم. جمعنا أغراض ليلى وأعطيناها لها. لكنني احتفظت بليفة استحمامها كتذكار لنفسي.

لم ترد أي أخبار عن ليلى بعد ذلك، ولم يعلن النظام حتى عن اسمها. والآن بقيت صورة لها بنفس الوجه المبهج في قائمة شهداء المنظمة كتذكار، وفي كل مرة أنظر إليها أتذكر ضحكتها الأخيرة.

وردة حمراء على قلبها

الهه محبت وسودابة بقائي [2]رفيقتان في المدرسة الابتدائية من المدارس الثانوية شرق طهران، وهما اثنتان من المجاهدات المراهقات اللتين كانتا في فريق واحد، وتم اعتقالهما بعد يومين من اعتقالي. كانت إلهه وسودابة تبلغان من العمر 17 عاماً. لقد تعرضتا للتعذيب قدر الإمكان، وكنا متأكدين تقريباً من أنه سيتم إعدامهما قريباً. لن أنسى أبداً وجه إلهه الوقور والجميل وعيني سودابة البريئتين، كانتا مثل روح واحدة في جسدين ولم تنفصلا عن بعضهما البعض. كنت معهما في نفس الغرفة في عنبر العيادة. في أحد الأيام، كان ”نوربخش“، مسؤول العنبر، واقفاً عند مدخل العنبر وبيده وردة حمراء، وعندما رأى إلهه قال لها: أريد أن أعطيك هذه الوردة.قالت إلهه: هل تعطيني هذه اليوم لتزرع غداً وردة حمراء على قلبي برصاصة؟ صمت نوربخش وندم على قوله.في كل مرة كانوا ينادون فيها أسماء للاستجواب، كنا ندعو الله ألا ينادوا اسم هاتين  المجاهدتين، لأن ذهابهما كان يعني عدم عودتهما. كانت سودابة تهمس لنفسها بهدوء دائماً:

“أتى الفجر، أتى الفجر

أضرم النار في كومة الليل…

“”قرعت الأجراس نداء هجرة الرفاق

وضعوا أرواحهم على أكفهم من أجل خلق الله…

“كلما نظرت إلى هاتين الزهرتين الجميلتين وتذكرت اللحظة التي لن تكونا فيها، كان قلبي ينقبض. ولكن في النهاية، حلّ ذلك اليوم وتلك اللحظة التي كنت أخشاها. في أحد أيام خريف 1981 تم استدعاؤهما معاً. لم تعد إلهه وسودابة، وكما قالت إلهه، زرع الجلادون الورود الحمراء على قلبيهما الطاهرين والنابضين. قلوب مليئة بالحب لشعبهما ومُثلهما.


[1] . كانت ليلى أرفعي (شيدا)  المجاهدة المتحمسة والجريئة تنشط في قسم الطلاب في منظمة مجاهدي خلق الإيرانية. في أكتوبر 1982 وفي ربيعها السابع عشر، أُعدمت رمياً بالرصاص على يد الجلادين بتهمة  مناصرة مجاهدي خلق الإيرانية.

[2] . كانت سودابة بقائي طالبة تبلغ من العمر ١٧ عاماً، وقد أُعدمت رمياً بالرصاص في طهران يوم 30 نوفمبر/ تشرين الثاني) 1981، بجريمة إصرارها على مبدأ حرية الشعب الإيراني. أما شقيقها، محمد بقائي، فكان يبلغ من العمر ٢٧ عاماً، وطالباً لهندسة المتالورجيا ومن مسؤولي صحيفة المجاهد، وقد استُشهد في أكتوبر/ تشرين الأول 1981 خلال اشتباك مع حراس النظام في طهران.

Exit mobile version