وجها لوجه مع الوحش (18)

وجها لوجه مع الوحش (18)

من كتاب بقلم هنغامة حاج حسن – الجزء الثامن عشر

في هذا الجزء من سلسلة ذكريات السجن بقلم هنغامة حاج حسن، الموثقة في كتاب وجها لوجه مع الوحش، تواصل الكاتبة وصف الظروف القاسية في “القفص”، وتكشف عن فشل جهاز ما يسمى بـ”التوبة” في سجن قزلحصار.

أيام وليالي في القفص

كانت الظروف صعبة، أحيانًا كنت أفقد صبري وأشعر بالضيق! ذلك العصابة اللعينة! كنت أشعر وكأن أهدابي تتحرك داخل عيني، تمنيت لو لم أمتلك عينين لأتجنب هذا الشعور. يا إلهي، ساعدني! ما هذا الضجر؟

الجلوس أصبح مؤلمًا، لأشهر وأنا جالسة، كل جزء في جسدي يؤلمني. كيف أجلس دون ألم؟ أي اتجاه أتخذه، كأن إبرًا مبعثرة على الأرض تخترق جسدي. كنت أضع يدي تحتي، لكنها سرعان ما كانت تخدر وتنمّل.

بينما أنا غارقة في أفكاري وأتذمر داخليًا، شعرت بوجود شخص فوق رأسي. قال: “هنغامة، مرحبًا!” عرفت صوته المتكلف، كانت ”شعلة“، خائنة تحولت إلى توابة في سجن إيفين، وهنا أصبحت جاسوسة لـ حاج داوود، تقوم بمهمتها القذرة بين القفص والتابوت.

“ما زلتِ جالسة؟!”

نظرت إليه مبتسمة وقد نسيت أفكاري السابقة: “نعم، هل لديك شكوى؟!”

ارتبكت وقالت: “ما زالت تبتسم، يا لجرأتك!” ثم غادرت.

مثير للاهتمام! إذن هم ينتظرون أن نستسلم ونتوقف عن الجلوس. العدو القذر كالنسر يتربص بالجثث. مرة أخرى، ساعدني الله ووضع العدو أمامي. هذا قانون النضال: لا تنسَ العدو ولا تغفل عنه، وإلا سيقضي عليك. عندما تؤلمك كل أنحاء جسدك وتزعجك العصابة وتبدأ بالتذمر، يظنون أنك ستنهارين. كلا، لن ينالوا مني!

عدّلت عصابة عيني بحيث تبدو وكأنها تغطي عيني تمامًا، لكن في الواقع كانت عيناي وحركة جفني حرة من الأسفل، وهذا كان كافيًا. أما بالنسبة للجلوس، فقد وجدت حلاً: سترتي الصوفية! لماذا لم أفكر فيها من قبل؟ تلك التي أرسلتها ”خالتي“، ناعمة وسميكة. كنت أضعها تحتي نهارًا وأتخذها وسادة ليلاً. يا لها من هدية رائعة من خالتي العطوفة، وكأنها كانت تعلم أين سأحتاجها.

اسم خالتي كانت ”ماهي“، كنّا ندعوها ”ماخالا“ اختصارًا لاسمها وكلمة خالة. كانت خالتي الرائعة، طوال فترة سجني لم يُسمح لها بالزيارة، لكنها لم تستسلم، كانت تأتي إلى بوابة السجن وتحضر لي شيئًا في كل مرة، مثل هذه السترة الرمادية التي نسجتها بنفسها. شكرتها في قلبي مرات عديدة.

سمعت صوت قضم الخبز اليابس من جهة اليسار. ركزت، كانت ”زهرة“! هي هنا بجانبي في القفص. لاحظت طرف حجابها أثناء ذهابي للصلاة، كانت هي. إذن ”زهرة “ نقلت إلى القفص أيضًا. حاجي لم يتركها وشأنها. الصوت الذي سمعته من قبل، هقّة وبعدها ارتطام قوي بالجدار المقابل، كان لها.

كان شهر رمضان، لا أعرف كم مضى من الوقت. كنت أنتظر انهيار حاجي وتوقف جهاز “التوبة” الخاص به ليبحث عن طرق جديدة.

في إحدى الليالي عند الإفطار، ارتفع صوت إحدى الفتيات فجأة، بدأت تتحدث بكلام غير مترابط، ممزوج بالبكاء وأحيانًا الضحك، فقدت توازنها النفسي. لا أعرف من كانت وما حدث، لكنهم أخذوها. كان هذه الحالة الثالثة أو الرابعة التي تفقدفيها إحدى الفتيات توازنها النفسي. يجب أن أكون حذرة! حاجي يحاول كسرنا بإغلاق أعيننا والضغط على أعصابنا وأفكارنا ليحقق هدفه. يجب أن أبقى متيقظة!

مر الربيع  ووصل الصيف. الآن مضى قرابة سبعة أشهر هنا. منذ أيام، لم يظهر حاجي. زادت همهمات التوابين، وقلّ اهتمامهم بمضايقتنا. بدوا بلا حيوية، ولم يعودوا يعذبوننا بحماسهم المعتاد. أحيانًا كانت الأبواب تُفتح وتُغلق أكثر من اللازم، وكنت أسمع أنفاس أشخاص يدخلون ويخرجون.

في صباح أحد الأيام، نادوني وأخرجوني. على عكس توقعاتي، قالوا إن لدي زيارة. بعد سبعة أشهر، جاء والداي المسكينان. في غرفة الزيارة، وقفا خلف الزجاج، وبجانبهما حارس وبجانبي آخر. عندما رآني أبي، لم يتحمل وبدأ بالبكاء. لكن أمي، المرأة القوية، سيطرت على نفسها. قلت لهما: “لا تبكيا، أنا بخير، قلقي الوحيد هو حزنكما.”

كان أبي لا يزال غير قادر على الكلام، ينظر إليّ ويبكي. علمت أنهما قضيا سبعة أشهر يركضان وراء كل جهة في النظام للحصول على زيارة. كثير من الآباء والأمهات فعلوا الشيء نفسه وما زالوا بلا أخبار عن أبنائهم. في لحظة غفلة الحارسين، أشرت لأبي بعلامة النصر. برق عيناه، ابتسمت له فابتسم. قلت: “لا تقلقا عليّ، لم أعد طفلة، حزنكما هو ما يؤلمني.” أردت أن يعرفا أن المعركة مستمرة.

عدت، وكنت متأكدة أن شيئًا قد حدث، وإلا لماذا سمحوا بالزيارة؟

الفشل النهائي لجهاز “التوبة”

بينما أنا غارقة في التفكير، سمعت أنفاسًا ثم تحية رجل غريب فوق رأسي. قلت: “من أنت؟” قال: “لماذا لا تردين على السلام؟” أعدت: “من أنت؟” قال: “عبادالله!” فهمت أنه إما  ملا أو حارس، شخص جديد، لكنني أردت معرفة من هو. لم أعد أهتم بضبط أسلوبي معه أو الحسابات.

قال: “جئنا لنراجع وضعك.” قلت: “لم أطلب ذلك.” أدرك أنني لا أريده، فقال: “أختي، لا تحسبي هذا على الإسلام.” قلت: “كن مطمئنًا، لم نحسبه على الإسلام، وإلا لما كنا هنا.” أظن أنه لم يفهم كلامي.

تابع: “جئت لأرى ماذا تفعلون وما هو وضعكم؟ تلقينا شكاوى في مكتب السيد منتظري.” ضحكت من سؤاله السخيف.

قلت: “سيدي، عيناي مغلقتان، لكن عينيك مفتوحتان، ألا ترى؟ لمَ تسألني؟ اذهب، ليس لدي ما أقوله، أنا بخير، مع السلامة!” وأنزلت رأسي. قال: “مع السلامة، أختي” وغادر.

فهمت ما يجب أن أفهمه، ولم أرد التحدث معه أكثر. تدريجيًا، أخلوا القفص. في يوم من الأيام، جمعونا ونقلونا إلى غرفة في الوحدة 3، أسموها “الحجر الصحي” أو ربما نحن من أطلقنا عليها ذلك، لا أعرف! كان واضحًا أن القفص كان موجودًا هنا أيضًا، لكنهم أزالوا الألواح، وبقي مكان الصلاة المصنوع من بطانيات الجنود دليلاً كافيًا.

يتبع…

Exit mobile version